غزة تكشف نكبة 1948- سردية فلسطينية تنتصر على التضليل.

المؤلف: ماجد الزير10.31.2025
غزة تكشف نكبة 1948- سردية فلسطينية تنتصر على التضليل.

إنَّ العدوان الغاشم المستمر على قطاع غزة منذ ما يربو على سبعة أشهر قد أسهم، وبشكل بالغ الأهمية، في ترسيخ الحقائق حول أحداث حرب 1948، وكشف النقاب عن تفاصيل النكبة التي ألمَّت بالشعب الفلسطيني وأدت إلى تشريده. لطالما سعى طرفا النزاع، الكيان الإسرائيلي الغاصب والشعب الفلسطيني المقهور، طيلة ما يقارب ثمانية عقود، إلى تقديم روايتين متضادتين للعالم، بغية إثبات أحقية قضيتهما المتباينة.

وقد تعددت ساحات الجدال حول مضامين الحجج وكشف الحقيقة، على مختلف الأصعدة الدولية، سواء السياسية والدبلوماسية والقانونية، أو الأكاديمية والثقافية والإعلامية والفنية والاجتماعية والنقابية، وفي كل بقعة متاحة لكلا الطرفين لعرض حجتهما وكسب المؤيدين أو لتسجيل نقاط وتحقيق انتصارات جزئية متفاوتة في حجمها وأثرها. واتسع نطاق الصراع ليشمل مؤيدين متحزبين لكلا الطرفين على المستويين الرسمي والشعبي، وتحولوا إلى فاعلين في اتجاهين متعارضين، مما أفضى إلى تشكيل معسكرين عالميين تعاظم تأثيرهما مع مرور السنين وتطور الأحداث.

غياب الإسناد العربي

لقد تمسك الاحتلال الإسرائيلي برواية مفادها أنه ليس مسؤولاً عن وقوع النكبة عام 1948، سواء من حيث إنكار ارتكاب مجازر ومذابح بحق الشعب الفلسطيني في جميع أرجاء فلسطين، أو من حيث تحمل مسؤولية تهجير الفلسطينيين قسرًا من مدنهم وقراهم وبلداتهم. بل يعزو سبب التهجير إلى عوامل داخلية وعربية. واستغل الاحتلال على مدار العقود القليلة التي تلت النكبة غياب التوثيق والإعلام الموضوعي الجاد في تلك الفترة، وكذلك تشتت الفلسطينيين وضعفهم وعدم تماسكهم، وغياب الدعم العربي الذي كان من المفترض أن يسندهم في دحض ادعاءات المعتدي.

إن النفوذ الذي يتمتع به الكيان المحتل حول العالم والدعم اللامحدود تقريبًا الذي يتلقاه من الدول الغربية على ضفتي الأطلسي، وتبني هذا المعسكر لرواية الاحتلال والعمل على تثبيتها في العقل والضمير الجمعي الغربي، مكّن أكاذيب هذه الرواية من أن تسود وتترسخ بشكل واسع النطاق طوال حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حتى أن صورة الاحتلال في المخيلة الغربية كانت تصوره على أنه الضحية في مواجهة طوفان من العداء العربي والإرهاب الفلسطيني المستشري.

بل إنك قد تجد في بعض الكتب الأكاديمية الجامعية في الدول الغربية أن اللاجئين والمهجرين هم الإسرائيليون، وأن دولة إسرائيل هي تحت الاحتلال، وقد حرص الغرب الداعم للاحتلال على منع حضور الرواية الفلسطينية أو إعطائها الفرصة لمواجهة الرواية الأخرى.

إن الحضور الملحوظ للسردية الفلسطينية في أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي قد بدأ نتيجة لعوامل عديدة ذاتية وإقليمية ودولية، وكذلك نتيجة لاستمرار السلوك الإجرامي لدولة الاحتلال، والذي واكبه تطور وانفتاح الإعلام. وعلى الرغم من ذلك، ظل الرأي العام الأوروبي والعالمي في معظمه غائبًا عن الحقائق المثبتة وتفاصيل النكبة وممارسات الاحتلال اللاحقة. ومن أهم أسباب ذلك تماسك القوى الغربية في دعمها الدائم لدولة الاحتلال وتفوقها، والعمل على توظيف الأدوات النافذة التي تمتلكها الدول الغربية والولايات المتحدة وحلفاؤها؛ من أجل ترسيخ رواية دولة الاحتلال في أذهان العالم.

لكن إصرار الشعب الفلسطيني، على مر العقود الماضية، على إبقاء قضيته حية وحاضرة وبأولوية قصوى وعدم طمسها أو تهميشها أو إنهاءها، قد تحقق على الرغم من شراسة الاحتلال وضخامة المؤامرة الدولية والتحديات الجسيمة والتضحيات الكبيرة، وساهمت استمرارية القضية والحضور القوي للمطالبة بالحقوق في تحقيق اختراقات تدريجية في حضور الرواية الفلسطينية في الضمير العالمي.

مشروع إحلالي

تقوم الحجج الفلسطينية على أساس أن مؤامرة دولية قد حيكت ضد الشعب الفلسطيني، وتمثلت في زرع مشروع إحلالي استيطاني في أرض فلسطين وتغذيته ديموغرافيًا عن طريق نقل مهاجرين يهود من مختلف أنحاء العالم وتمكينهم من الاستقرار في فلسطين، وكان ذلك على حساب ارتكاب مجازر ومذابح مروعة بحق الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، وتهجير ما يقرب من 900 ألف فلسطيني قسرًا وبالقوة، مما أدى إلى قيام دولة الاحتلال ومنحها شرعية دولية، بينما بقي الشعب الفلسطيني طوال هذه الفترة يعيش في وضع لاجئ بائس ومحرومًا من كيان سياسي أو دولة تتمتع بالحد الأدنى من السيادة.

لقد جاءت الأحداث الجسام التي شهدتها الأشهر الأخيرة، بدءًا من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي وحتى شهر مايو/ أيار الجاري، وحلول الذكرى السادسة والسبعين للنكبة، وارتكاب دولة الاحتلال جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والقتل الممنهج، لتكشف جرائم الاحتلال بشكل ملموس ومرئي للعالم أجمع وبتوثيق دقيق غير مسبوق. كل ذلك كشف حقيقة ما جرى عند وقوع النكبة عام 1948، وأن الطبيعة الإجرامية المتأصلة لدولة الاحتلال ليست وليدة هذه الأيام.

وإن ما يدور الآن من أحداث لَيشكل دليلًا دامغًا على وقوع مجازر دير ياسين والدوايمة وغيرها من المجازر التي بلغت تسعين مجزرة على امتداد خريطة فلسطين التاريخية وعرضها، والتي استشهد فيها ما لا يقل عن 15 ألف شهيد (وفقًا لتوثيق المؤرخ الدكتور سلمان أبو ستة)، وهذا الرقم، على الرغم من فداحته، يقل بكثير عن جرائم الإبادة الجماعية التي تُرتَكب خلال عامي 2023 و2024، حيث قتلت قوات الاحتلال ما يزيد عن 35 ألف شهيد فلسطيني، إضافة إلى آلاف المفقودين تحت الأنقاض منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وحتى حلول الذكرى السادسة والسبعين للنكبة في منتصف شهر مايو/ أيار الجاري، وقد تم توثيق أكثر من ثلاثة آلاف مجزرة ارتُكِبت بوحشية وسادية وبدم بارد. وإلى جانب الشهداء، هناك ما يقرب من 100 ألف جريح، والغالبية الساحقة من الضحايا هم من النساء والأطفال.

لقد أصبحت حجج الشعب الفلسطيني عبر التاريخ لا تحتاج إلى أدلة مع وجود هكذا مشاهد يراها العالم ويعايش تفاصيلها، فانكشفت الحقائق جلية بما لا يدع مجالًا للإنكار، مما أدى إلى انقلاب شعوب العالم على دولة الاحتلال، واتضحت لهم الطبيعة الحقيقية للكيان الغاصب وانكشف زيف الأوصاف التي روجتها آلة الدعاية الغربية دفاعًا عن دولة الاحتلال، سواء كانت (دولة واحة الديمقراطية وشعبها صناع السلام أو أنهم الجانب الحضاري المشرق في الشرق الأوسط).

إن مشهد سفير دولة الاحتلال (اللامتحضر) من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة مساء العاشر من شهر مايو/ أيار الجاري، وهو يمزق ميثاق الأمم المتحدة أمام أعضائها؛ احتجاجًا على التصويت الساحق لصالح توصية تُرفع إلى مجلس الأمن تدعم الاعتراف بدولة فلسطين، ما هو إلا تعبير عن عنجهية وغطرسة جامحة تفتقر إلى الاتزان، مما يخلق أجواء استفزاز عالمية على المستويين الرسمي والشعبي. ويعيش العالم مع هذه المشاهد بشكل معمق الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني من الاحتلال وداعميه طوال ما يزيد عن مائة عام مضت.

اتهامات وادعاءات

في جانب آخر، فإن كل أشكال العنصرية (قولًا وفعلًا) التي أظهرتها قطاعات واسعة ومختلفة في دولة الاحتلال من سياسيين ورجال دين وأكاديميين وعسكريين وقادة وجنود على حد سواء ضد الشعب الفلسطيني في غزة، والتي يمكن وصفها بتجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته، قد كشفت النزعة العرقية المتفوقة لدى الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يدحض ويرد كل الاتهامات والادعاءات نفسها التي توجهها دعاية دولة الاحتلال ضد ما تصفه بممارسات عنصرية من الفلسطينيين والعرب والمسلمين بحق اليهود طوال العقود الماضية.

وكأن التاريخ يعيد نفسه في مشاهد عدة للصراع حول فلسطين، فالغطاء الدولي المنحاز للمعتدي دون الاكتراث للمعايير السياسية والقانونية والإنسانية يتكرر هذه الأيام من الدول نفسها، وعلى أيدي أحفاد اللاعبين السياسيين أنفسهم منذ ثمانية عقود خلت وقبلها.

وحتى كتابة هذه السطور، لم يصدر إدانة من الاتحاد الأوروبي للمجازر المرتكبة، على الرغم من أن القتل في الشعب الفلسطيني مستمر على مدار سبعة أشهر، ولم يقترب من اعتبار ما يجري إبادة جماعية وتطهيرًا عرقيًا. وهو مشهد واضح يُقدَّم في فضاء مفتوح للرأي العام العالمي ولشعوب هذه الدول، ويظهر تفاصيل خيوط المؤامرة التي أنشأت نكبة فلسطين، بل وتقدم معظم هذه الدول مختلف أنواع الدعم لدولة الاحتلال، وفي مقدمتها الدعم العسكري، وتحاول تكميم الأفواه المناصرة بشكل واضح، وخير دليل على ذلك مشهد الأكاديمي الطبيب البريطاني من أصل فلسطيني الدكتور غسان أبو ستة، الذي مُنع من دخول ألمانيا وفرنسا وهولندا وحُرم من تقديم شهادته عما رآه وعايشه في مستشفيات غزة خلال 45 يومًا قضاها وسط الأحداث الجارية.

حتى على الصعيد الدبلوماسي، كان أداء الولايات المتحدة منحازًا بشكل صارخ، واستخدمت حق النقض "الفيتو" عدة مرات لمنع طلب الوقف الفوري للعدوان، على الرغم من مشاهد القتل المروعة، وعلى الرغم من استخدام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش صلاحياته بتفعيل الفصل السابع في مشهد نادر لطلب التدخل لحماية الشعب الفلسطيني، إلا أن واشنطن استخدمت "الفيتو" لإجهاض مشروع القرار، وهذا يقدم مقاربة لمشاهد الأمم المتحدة (ومناورات واشنطن على الدول الصغيرة) التي أدت إلى صدور قرار التقسيم الظالم عام 1947، الذي أفضى إلى قيام دولة الاحتلال، مما سهل مهمة تمكين دولة الاحتلال في فلسطين وإعطاء غطاء لكل جرائمها.

ولكن على الرغم من فداحة الأحداث وعِظم الخسائر في جسد الشعب الفلسطيني خلال الأحداث الجارية، فلن يتأتى لدولة الاحتلال وداعميها أن يحصلوا على نتائج كتلك التي ترسخت إثر نكبة 1948، فالبيئة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والدولية على المستويين الشعبي والرسمي إلى حد ما، قد طرأ عليها تحولات وتطورات مهمة وجوهرية تحول دون أن يتحرك أصحاب مشروع دولة الاحتلال في فضاءات على عدة أصعدة، ويضاف إلى هذا الوضع المنقسم على نفسه وبشكل حاد داخل دولة الاحتلال، حيث لم يستطيعوا إخفاءه أو تأجيله، في ظل حرب مستعرة تقودها دولة الاحتلال على عدة أصعدة وفي ساحات مختلفة وعلى امتداد مساحة الكرة الأرضية.

الإعلام المفتوح

إن حالة الوعي التي يتمتع بها الشعب الفلسطيني بحقيقة المؤامرة ومخطط التهجير، وما يصاحبها من تمسك بالحقوق والعمل على استرجاعها بكل الوسائل التي شرعتها القوانين الدولية، وتماسكه الشعبي حول خيار مقاومة المحتل، وهذا هو الحد الأدنى مما كفلته له القوانين كافة، وما يصاحب ذلك من وعي الدول العربية بمسلسل التهجير ورفضه، كل ذلك قد أسقط خيار التهجير والترحيل القسري وصعّب مهمته، ولم يعد مشهد عام 1948 سهل المنال.

وفي الجانب الوطني الفلسطيني أيضًا، تعاظم الفعل الفلسطيني في شتى المجالات، ومع تطور حضور الفلسطينيين حيثما كانوا في العالم، كان لذلك الأثر في تصعيب مهمة تحرك دولة الاحتلال في إنفاذ مخططاتها.

ولا نغفل عن الضعف الذي يمكن ملاحظته في المواقف العربية بشكل جمعي وقُطري إلى حد ما، مع وجود آلة تطبيع مع دولة الاحتلال لا تزال قائمة، وعدم تحرك المجهود الشعبي بما يكافئ حجم التضحيات والكوارث في غزة، إلا أن عوامل عديدة موازية واكبت الصمود الفلسطيني حدَّت من تأثير هذا الأداء على الصعيد العربي وبرزت كعناصر تفوق أمام آلة الحرب الإسرائيلية التي تمعن قتلًا في الشعب الفلسطيني.

ومع الإعلام المفتوح وتكنولوجيا المعلومات وتحول العالم كما يقال (إلى قرية صغيرة) ومجتمع واحد، منفتح على نفسه، لم تعد أدوات التأثير والتحكم حكرًا على الدول والجهات الرسمية، أو أن يستطيع طرف أن يتحكم في تفاصيل المشهد العالمي بشكل شامل. ومع انكشاف الحقائق وتطور الوعي العالمي، تحول هذا إلى فعل مضاد للمخطط التآمري على الشعب الفلسطيني، وتجسد ذلك بأشكال تضامنية متماسكة وقوية التأثير وضغط، كان آخرها احتجاجات الجامعات في أميركا وأوروبا التي لحقت بعشرات آلاف المظاهرات التي عمت شوارع عواصم ومدن العالم طوال الأشهر الماضية ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهنا تبرز مصداقية مقولة يرددها الباحثون والسياسيون منذ زمن: (لو كان الإعلام المفتوح موجودًا إبان نكبة 48 لكان يمكن ألا تقع).

ولعل تحرك حركة الاستقطاب العالمي وحصول تبدل جوهري في ميزان القوى يصعب مهمة كسر شوكة الشعب الفلسطيني، ونضرب مثالًا بأداء أربع دول بدءًا من مواقفها في التصويت بنعم على قرار التقسيم وهي روسيا (الاتحاد السوفياتي سابقًا) وجنوب أفريقيا ونيكاراغوا والبرازيل. ونخص بالذكر جنوب أفريقيا التي كانت الحليف الاستراتيجي لدولة الاحتلال؛ صِنوها العنصري آنذاك، لتتحول إلى محارب شرس يدافع باستماتة عن حقوق الشعب الفلسطيني، ومشهد محكمة لاهاي الاستراتيجي أصبح علامة تاريخية فارقة. وكذا الصين التي امتنعت عن التصويت لقرار التقسيم، وموقفها اليوم في الفضاء العالمي مهم في الكفاح الفلسطيني لاسترجاع الحقوق. وعلى الجانب القريب للقضية تقف بتميز إيران تركيا وقطر، وهناك دول أخرى تبدلت مواقفها بتفاوت، مما يمكن أن يحدث فرقًا في معادلة الشعب الفلسطيني.

إن الأحداث الجارية في فلسطين، وخاصة العدوان على غزة والبيئة المحيطة بها على الصعيد الفلسطيني والعربي والدولي، ومن أهمها الإصرار والوعي الشعبي الفلسطيني، وكذلك الوضع في دولة الاحتلال، ترجح صعوبة تكرار سيناريو نكبة 1948، وأنه رغم الجراح والآلام والخسائر الفادحة في جسد الشعب الفلسطيني، فإنه بات أقرب لاسترجاع حقوقه، وعلى رأسها العودة إلى قراه ومدنه التي جرى تهجيره منها، وهذا كله يأتي في إطار القانون الدولي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة